يشهد الوطن العربي مرحلة انحسار قومي يتصاعد ويتسع، ويترافق مع ما يجري من فوضى سياسية وأمنية في بعض دول المنطقة، وكل ذلك مع اتضاح طبيعة البرنامج الأمريكي الصهيوني الذي يتم تنفيذه بدقة، في وقت لا النظام العربي الرسمي قادرًا على مواجهته؛ بسبب ضلوع بعض أطرافه في المشاركة بطريقة أو بأخرى، ولا الجماهير العربية تستطيع إسقاطه بسبب الأزمات الاقتصادية المعيشية الطاحنة التي تعاني منها، والتي جعلتها أسيرة للنضال المطلبي. يعتبر غياب عبد الناصر عن المشهد السياسي العربي والدولي برحيله في 28 من سبتمبر/أيلول عام 70، خسارة كبرى لحركة التحرر العربية التي أعطتها مصر وجودها وتراثها الإنساني والحضاري، وأعطاها عبد الناصر شبابه وعمره؛ فغياب عبد الناصر من ساحة النضال العربي أثر ولا شك تأثيرًا كبيرًا على قضية التحرر الوطني التي رفع عبد الناصر لواءها في فترة من أهم فتراتها مدها وتعاظمها. وقد وصل هذا التأثير الوخيم على التطورات السابقة واللاحقة للصراع العربي الصهيوني، فلم ينصرف وقت قليل على غياب الزعيم العربي عبد الناصر حتى خرجت القوى الرجعية العربية التي تجمدت حركتها وفاعليتها، بسبب اتجاهات ومواقف ثورة 23 يوليو المجيدة، لتطعن حركة النضال الوطني المصري والعربي داخل مصر وخارجها، وذلك بما هيأته هذه القوى من مناخ مناسب عن طريق الصحافة وأجهزة الإعلام للنظام الجديد، كي ينقض على مواقف هذه الثورة المجيدة الرائدة، ويدفعها للتخلي عن التزاماتها العربية، خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية؛ لتنسحب مصر من دائرة الصراع العربي الصهيوني، جراء التوصل إلى اتفاقية صلح مع الكيان الصهيوني، وبذلك تترك الساحة السياسية العربية لمخططات التحالف الأمريكي الصهيوني، وبتنسيق مع القوى الرجعية العربية؛ ليتم الانفراد بقوى حركة التحرر العربية واحدة وراء الأخرى.
لقد كان عبد الناصر يعي بعمق الدور الخطير الذي تلعبه قوى الرجعية العربية، وفي مقدمتها النظام السعودي، لذلك عمل وبكل جهد من أجل تأصيل الانتماء القومي لمصر، ولدورها كعنصر هام من عناصر المواجهة ضد الاستعمار والصهيونية، منطلقًا من إدراكه لمدى ارتباط الشعب المصري بالقضية الفلسطينية، ونتيجة لذلك فشلت الإمبريالية الأمريكية والقوى الغربية الأخرى طوال وجود عبد الناصر من عزل مصر عن الأمة العربية تحقيقًا للمشاريع الاستعمارية القديمة التي كانت تهدف إلى ربط مصر كليًا بالعالم الغربي من خلال شبكة الأحلاف والمعاهدات الاستعمارية.
لقد صمد عبد الناصر أمام كل المشاريع السياسية الاستعمارية، وصمد في مواجهة الحصار الاقتصادي الذي فرضته أمريكا لتجويع الشعب المصري، وانتصرت في النهاية إرادة مصر الوطنية، وسقط مشروع ايزنهاور، ونظرية ملء الفراغ، وحلف بغداد، وتم بناء السد العالي وسجلت ثورة 23 يوليو بقيادة عبد الناصر انتصارًا تاريخيًا؛ جعل من أرض مصر العربية مركزًا قيادياً للنضال العربي وقلعة هامة من قلاع حركة التحرر في العالم الثالث. ولا شك أنه في هذه المرحلة التي تتنامى فيها المخططات الإمبريالية الصهيونية، خاصة المخطط الأمريكي لتصفية القضية الفلسطينية تصفية نهائية ،والمعروف بصفقة القرن، وفي وقت تخلو فيه الساحة السياسية العربية من قيادة تاريخية بحجم قيادة عبد الناصر.. في هذه المرحلة ما أحوج النضال العربي لمصر الخط الوطني القومي التحرري المعادي للقوى الرجعية والظلامية المحلية والعربية.. مصر التي تقود النضال العربي من خلال مد قومي عارم، يستجيب للظروف التاريخية الحاضرة؛ ذلك ان أعظم تكريم لروح عبد الناصر هو في إعادة مصر لدورها القومي القيادي التاريخي في موجهة أعداء الأمة.